--------------------------------------------------------------------------------
النقابات المهنية من خلال التشريع المغربي
يعتبر قانون الشغل من القوانين الأكثر أهمية و حساسية داخل المنظومات القانونية نظرا لكونه يضبط العلاقات القائمة بين الأجراء و المؤاجرين بتحديده حقوق و التزامات الطرفين ليتمكن بذلك من خلق سلم اجتماعي يعتبر ضروريا للاستقرار السياسي و التطور الاقتصادي.
و قد كان وضع اليد على المادة الاجتماعية في المغرب يحتاج إلى جهد و معاناة بسبب تشتت نصوصه و عدم جمعها في مدونة واحدة يستطيع الباحث الرجوع إليها عند الحاجة و يضطر إلى التنقل بين صفحات الجرائد الرسمية المنظمة لمختلف الظهائر و المراسيم حول موضوع الشغل لذلك كان من الضروري التفكير في جمع هذا الشتات لتيسير البحث في التشريع الاجتماعي إضافة إلى الحاجة الملحة لإدخال تغيرات على تلك النصوص المستهلكة نظرا للتغيرات الحاصلة في ميدان الشغل و الحريات العامة بصفة عامة.و هكذا دخل الفرقاء الاجتماعيون: ممثلي المأجورين و مشغلين و الحكومة في سلسلة لقاءات
أطلق عليها اسم "الحوار الاجتماعي"
.تم النقاش خلالها حول نقاط الاختلاف و الخروج بمشاريع متوالية توجت باتفاق أبريل 2003
و الذي تمخض عنه مشروع القانون رقم 65.99 و خرج إلى حيز الوجود بعد إدخال مختلف التعديلات عليه خلال مروره بمجلس الوزراء و البرلمان و اللجان المختصة.
و نظرا للدور الأساسي الذي قامت به المنظمات المهنية للمشغلين و المنظمات النقابية للأجراء طيلة مراحل الحوار
و لكونها أطرافا فاعلة في تطوير الاقتصاد الوطني بشكل عام، فقد كان من الواجب ايلائها الأهمية التي تليق بها و لاسيما من خلال المفاوضة الجماعية باعتبارها حقا من الحقوق الأساسية و ذلك في سياق منظم و منتظم و إلزامي يكتسي طابعا مؤسساتيا و على كافة المستويات حتى يساهم في آثار ايجابية على العلاقات الاجتماعية داخل المقاولة و في عالم الشغل. و هكذا حملت مدونة الشغل مجموعة من المستجدات الخاصة بها يمكننا تلخيصها فيما يلي:
- إشراك مندوبي الأجراء في مسطرة تأديب و تسريح الأجراء.
- إشراك مندوبي الأجراء في الاجراءات المتعلقة بالتخفيض من مدة الشغل في حالة أزمة عابرة للمقاولة.
- إدراج مقتضيات تتعلق بالمفاوضة الجماعية طبقا لاتفاقية العمل الدولية رقم 98 المتعلق بحق التنظيم و المفاوضة الجماعية.
- إمكانية تلقي الاتحادات و الجامعات النقابية المهنية إعانات مالية من الدولة لتغطية كل أو جزء من مصاريف كراء مقراتها و أجور الأطر العاملة لديها، و مصاريف الأنشطة المتعلقة بالثقافة العمالية لفائدة أعضائها.
تعريف النقابة المهنية.
لم يعرف المشرع المغربي النقابة المهنية، و إنما اكتفى بتحديد وظائفها في محاولة لتميزها عن باقي المؤسسات الجمعوية، و كذا ليتمكن من رسم حدود لممارسة نشاطها. و هكذا كلما حاولنا الحديث عن تحديد لمفهوم النقابة المهنية نجد أنفسنا أمام تحديد لوظائفها.
و على هذا المستوى نلاحظ تغييرا كثيرا بين ظهير 16 يوليوز1957 و مقتضيات مدونة الشغل. حيث ينص في فصله الأول على: " أن القصد الوحيد من النقابات المهنية هو الدرس و الدفاع عن المصالح الاقتصادية و الصناعية و التجارية و الفلاحية الخاصة بالمنخرطين فيها". في حين أن المادة 396 من مدونة الشغل تقول:" تهدف النقابات المهنية بالإضافة إلى ما تنص عليه مقتضيات الفصل الثالث من الدستور إلى الدفاع عن المصالح الاقتصادية و الاجتماعية و المعنوية و المهنية الفردية منها و الجماعية للفئات التي تؤطرها و إلى دراسة و تنمية هذه المصالح و تطوير المستوى الثقافي للمنخرطين بها. كما تساهم في التحضير للسياسة الوطنية في الميدانين الاقتصادي و الاجتماعي و تستشار في جميع الخلافات و القضايا التي لها ارتباط بمجال تخصصها".
نلاحظ منذ الوهلة الأولى اختلافا هاما على مستوى المساحة المخصصة لكلا النصين، و هو ناتج عن التوسع في موضوع الوظائف المنوطة بالنقابة المهنية. فبينما كان يحصرها ظهير 1957 في "قصد وحيد" أي الدرس و الدفاع عن المصالح الاقتصادية و الصناعية و الفلاحية الخاصة بمنخرطيها. نجد المدونة الجديدة تعدد هذه الوظائف كالأتي:
- المساهمة في تنظيم المواطنين و تمثيلهم.
- الدفاع عن مصالح المنخرطين.
- تطوير المستوى الثقافي للمنخرطين.
- التحضير للسياسة الوطنية في الميدانين الاقتصادي و الاجتماعي.
- إبداء المشورة في جميع الخلافات و القضايا المرتبطة بمجال تخصصها.
و هذا التغيير الكبير راجع بالطبع إلى ظروف تاريخية و سياسة لعمل النقابات، و للتطور الذي عرفه التشريع حولها في مواكبة للتطورات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية في المغرب بصفة عامة. و إذا كان تحديد هذه الوظائف لا يعوضنا عن سكوت المشرع عن تعريف النقابة المهنية ،إلا أنه يساعدنا على تميزها عن باقي أشكال المؤسسات الجمعوية كالجمعية و الحزب السياسي مثلا.
الآثار القانونية المترتبة عن إنشاء نقابة مهنية.
الآثار القانونية المترتبة مباشرة عن تأسيس النقابة المهنية هو اكتسابها للشخصية المعنوية: "تحصل النقابات المهنية على الشخصية الاعتبارية إذا كانت وفق أحكام القانون" و بهذا تتبث لها مجموعة من الحقوق و تترتب في ذمتها مجموعة من الالتزامات.
و من أهم الحقوق التي تثبت للنقابة المهنية ما جاءت به المادة 404 من المدونة: "تتمتع النقابات المهنية بالأهلية المدنية و بالحق في التقاضي و يمكن لها أن تمارس ضمن الشروط و الإجراءات المنصوص عليها قانونا جميع الحقوق التي يتمتع بها المطالب بالحق المدني لدى المحاكم في كل ما له علاقة بالاعمال التي تلحق ضررا مباشرا أو غير مباشر بالمصالح الفردية أو الجماعية للأشخاص الذين تعمل على تأطيرهم، أو بالمصلحة الجماعية للمهنة أو الحرفة التي تتولى تمثيلها".
و بالمقابل تلتزم النقابة باحترام الحدود القانونية المرسومة لها.
أهم المبادئ الخاصة بالعمل النقابي
إن العمل النقابي سواء داخل المغرب أو خارجه تحكمه مجموعة من المفاهيم و المبادئ العامة التي يتعامل معها المشرع بشكل نسبي من بلد لآخر.و المشرع المغربي بدوره تدرج موقفه منها بحسب التطور الحاصل في الواقع السياسي و الاقتصادي العام،و أولاها اهتماما لحساسيتها في العلاقة بين العامل و المشغل، و العامل و النظام الاقتصادي.و سنتناول هنا أهمها و المتمثلة فـي "مبدأ الحرية النقابية"، " مبدأ المفاوضة الجماعية" "و مبدأ النقابة الأكثر تمثيلية".
مبدأ الحرية النقابية
أول جانب من مفهوم الحرية النقابية هو أن للشخص الحرية في أن ينخرط أو لا ينخرط في منظمة نقابية، و يقتضي هذا المفهوم حماية العمال النقابيين و غير النقابيين، و يمنع أي تمييز بين العمال بسبب انتمائهم أو نشاطهم النقابي.
و لطالما احتد النقاش حول موضوع الحرية النقابية،فإذا كان المشرع المغربي قد عمل على تدشين عهد جديد بعد الاستقلال بتكريس شرعية تأسيس النقابات و حق الإضراب و منع الحزب الوحيد والنقابة الوحيدة تضمن ذلك أول دستور (1962). غير أن هذا المبدأ طاله سوء التأويل "بصدور ظهير 29 أكتوبر 1962 الخاص بتمثيل العمال داخل المؤسسات . حيث اعتبره العديد من المتدخلين محاولة لضرب العمل النقابي المغربي".
و تماشيا مع نصوص أسمى قانون في البلاد و الذي يتناول الحرية النقابية في فصليه الثالث و التاسع، فقد ركزت المدونة الجديدة خصوصا في المادة 398 على هذا الحق: "يمكن تأسيس النقابات المهنية بكل حرية...".
مفهوم المفاوضة الجماعية.
إن هذا المبدأ مرتبط بمحاولة نشر ثقافة الحوار على كافة الأصعدة خصوصا في الميدان الاجتماعي، و ذلك لتأهيل المقاولة قصد مواجهة تحديات العولمة و شراسة المنافسة داخل الأسواق. و هو شيء لا يتحقق إلا بوعي كل طرف (الأجير و المشغل) بحقوقه و التزاماته.
لأنه في ظل الحديث عن المقاولة المواطنة، و الشراكة و الحكامة و ما إلى ذلك من المفاهيم، تفرض ثقافة الحوار نفسها، و يصبح من الضروري التعامل مع ممثلي الأجراء بأسلوب حضاري يتماشى مع ما أسلفناه و أيضا لحفظ السلم الاجتماعي. و لعل أول خطوة في هذا السياق هي الحوار الاجتماعي الذي تكلل بخروج مدونة الشغل للوجود.
يمكننا اعتبار هذه النقطة بالضبط من أكبر الإنجازات التي تحققت إن لم تكن أهماها على الإطلاق. حيث خصصت لها المدونة الجديدة قسمين كاملين تحت عنوان: "المفاوضة الجماعية" و "اتفاقية الشغل الجماعية" .تضمنت المواد من 92 إلى 134 استهلها الحوار الذي يجري بين ممثلي المنظمات النقابية الأجراء الأكثر تمثيلا أو الاتحاديات النقابية للأجراء الأكثر تمثيلا من جهة، و بين مشغل أو عدة مشغلين أو ممثلي المنظمات المهنية للمشغلين من جهة أخرى بهدف:
- تحديد و تحسين ظروف الشغل و التشغيل.
- تنظيم العلاقات بين المشغلين و الأجراء.
- تنظيم العلاقات بين المشغلين أو منظماتهم من جهة، و بين منظمة أو عدة منظمات نقابية للأجراء الأكثر تمثيلا من جهة أخرى.
إن القسم الثالث من المدونة يتضمن مجموعة من الشروط المتعلقة بالمفاوضة الجماعية سواء على مستوى المقاولة أو القطاع،أو على المستوى الوطني.مبينا أطرافها والعناصر التي يحب أن تتضمنها. لينتقل بعد ذلك إلى الاتفاقية التي تعتبر نتيجة منطقية للمفاوضة الجماعية و يعرفها في المادة 104 كالآتي: "اتفاقية الشغل الجماعية هي عقد جماعي ينظم علاقات الشغل، و يبرم بين ممثلي منظمة نقابية للأجراء الأكثر تمثيلا أو عدة منظمات نقابية للأجراء الأكثر تمثيلا، أو اتحاداتها من جهة بين مشغل واحد أو عدة مشغلين يتعاقدون بصفة شخصية أو ممثلي منظمة مهنية للمشغلين أو عدة منظمات مهنية للمشغلين من جهة أخرى."تحت طائلة البطلان،يجب أن تكون اتفاقية الشغل الجماعية مكتوبة.
يتضمن بعد ذلك القسم الرابع كل الجوانب الخاصة باتفاقية الشغل الجماعية مجال تطبيقها و دخولها حيز التطبيق، أطرافها و الانضمام إليها، مدتها و انتهاؤها، أحكام مختلفة حولها تنفيذها ثم في الختام "الباب السابع" تعميم مجالها و إنهاؤها.
تطرقنا لهذا الجزء تلخيصا لأنه ليس في مقدورنا نظرا لتواضع مستوانا المعرفي في المجال القانوني التطرق للجزئيات الواردة فيه على وجه التفصيل.غير أن ما يمكن الإشارة إليه هو أنه لا يمكن الحديث عن المفاوضة الجماعية دون الحديث عن تمثيلية النقابات، مما يصل بنا إلى المبدأ الثالث:" النقابة الأكثر تمثيلية ".
ü مفهوم النقابة الأكثر تمثيلية
إن مفهوم النقابة الأكثر تمثيلا يتكرر كلما تعلق الأمر بحوار مع الأجراء. فمواد المدونة خاصة الموجودة في الأبواب الخاصة بالمفاوضة الجماعية، أو اتفاقية الشغل الجماعية تتضمن هذا المفهوم مرارا، و السر في ذلك هو ما لهذا المفهوم من أهمية مرتبطة بالديمقراطية ككل والتي تعتمد رأي الأغلبية للحسم في الأمور العالقة.
و أول ظهور لمفهوم النقابة الأكثر تمثيلية في التشريع الفرنسي يعود إلى قانون 24 يونيو 1936 المتعلق بالاتفاقيات الجماعية لكنه لا يمدنا بتحديد دقيق لمعناه. و لا نجد فيه أية إشارة لمعنى المنظمة النقابية الأكثر تمثيلية.
أما التشريع المغربي فلم يدخل هذه الفكرة إلى قوانينه إلا مع الظهير المؤرخ في 27 يوليوز 1972 المنظم للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ثم في الفصل الأول من المرسوم رقم: 633-74-2 المؤرخ في 28 شتنبر 1974 .والمتعلق بتعيين المستشارين لدى القسم الاجتماعي في المحاكم الابتدائية.
إن عدم تعريف مفهوم النقابة الأكثر تمثيلية ، أثار دائما النقاش.حيث أن المعايير الخاصة به تتعدد. ثم أن صفة النقابة الأكثر تمثيلا يمكن إعطاؤها في آن واحد لعدة نقابات أو اتحادات نقابية.و هناك مشكلة أخرى تكمن في معرفة ما إذا كانت فكرة النقابة الأكثر تمثيلا ينظر إليها على الصعيد الوطني أو الإقليمي أو المحلي أو على صعيد المؤسسة.و في هذا السياق نذكر أن السيد عبد الرحمان اليوسفي في فترة توليه الوزارة الأولى و بالضبط سنة 1998 قام بإقصاء الاتحاد العام للشغالين من اللائحة المقترحة لمنظمة العمل الدولية للمشاركة في مؤتمرها، و كانت النتيجة تظاهر أعضاء المنظمة النقابية أمام مقرها بالدار البيضاء منددين بقرار الوزير الأول.
و إذا كان ظهير 16 يوليوز 1957 لم يتضمن أية إشارة لمفهوم "النقابة الأكثر تمثيلا" فان المدونة الجديدة جاءت لترفع هذا اللبس نهائيا في الباب الخامس و المعنون: "المنظمة النقابية الأكثر تمثيلا" حيث تضمن مادة فريدة(425) تحتوي معايير تحديدها على الصعيد الوطني أو على مستوى المقاولة و المؤسسة.
نلاحظ إذا من خلال هذه القراءة البسيطة لمدونة الشغل ،و بالخصوص في موضوع النقابات المهنية في مقارنة مع ما سبقها من القوانين أنها تعد مكسبا حقيقيا للحركة الاجتماعية المغربية.غير أن اجراة هذه المقتضيات و غيرها لن يصل المستوى المطلوب إلا بعد إنشاء محاكم خاصة بمنازعات الشغل على غرار المحاكم الإدارية و التجارية.والى جانب مقتضيات المدونة ماتزال الشغيلة المغربية و الوسط القانوني كله يتطلع إلى إصدار القانون المنظم لحق الإضراب و الوارد في الفصل 14 من الدستور وكذا إعادة النظر في الفصل 288 من القانون الجنائي الذي يمكن تأويله في غير صالح النضال العمالي.
غير أن الإطار القانوني لا يعد العقبة الوحيدة أمام الهيئات النقابية المغربية، بل هي ترزأ تحت عبئ مشاكلها الذاتية.فإضافة إلى الاختلال الحاصل على مستوى مرجعيتها المتأثرة بالفكر الاشتراكي ، تعاني من ظاهرة العزوف عن العمل النقابي أسوة بالعزوف عن العمل السياسي ككل.إلا أن معضلتها الحقيقية تتمثل في ارتباط العمل النقابي بالعمل السياسي ، وهي مسالة لها جذورها التاريخية منذ عهد الاستعمار، فما إن يحدث خلاف داخل الحزب حتى تنتقل عدواه إلى النقابة، فيؤثر على سيرها لتنشق في الأخير بانشقاقه.وهذا ما يفسر ظاهرة البلقنة النقابية الحاصلة في بلدنا .حيث وصل عدد المركزيات النقابية ما يفوق العشرين.فما ضرورة هذا الشتات في مجال تشكل وحدة الجهود مصدر قوته الأساسية ؟
المراجع المعتمدة:
- دستور المملكة المغربية.
- الحريات العامة بالمغرب "ظهير النقابات المهنية".
- مدونة الشغل الجديدة.
- " الحركة العمالية المغربية ( صراعات و تحولات)".
عبد اللطيف المنوني/ محمد عياد- دار توبقال للنشر الطبعة الاولى 1985.
- " الحق النقابي بالمغرب" عبد العزيز مياج.
قراءة نقدية في ظهير 16 يوليوز بشأن النقابات